لحظة من فضلكم..... العنوان صحيح، وليس خطأ مطبعيا أو حسابيا، وأعلم أن تاريخ صدور الوعد المشؤوم هو 02/11/1917، ولكن هل هذا صحيح؟ ربما هذا ما نعرفه جميعا، ولكن ما إكتشفته ، هو أن الوعد له قصة وتاريخ ومؤامرات لا حصر لها تعود بجذورها إلى الوراء أكثر مما نتصور جميعا، وما نعرفه لا يتجاوز ما نسمعه كل عام أن "اليوم تمر الذكرى كذا لصدور وعد بلفور"، وهو وللمفارقة لم يحدث هذا العام وكأن الوعد ألغي أو إنتهى أو لم يعد له وجود أو تأثير وهو ما يثير تساؤلات عدة حول محاولات طمس الحقائق وتزوير التاريخ و"إنساء" المحطات النضالية لشعبنا وتغيير المباديء، والتي صارت جميعها صفة وسمة واضحة لمن يدعون قيادة شعبنا.
حاولت أن يكون نشر هذا الموضوع يوم 02/11/2004 ولأقول كغيري "تمر اليوم الذكرى 87 لوعد بلفور"، ولكن ما أن بدأت في قراءة التفاصيل وما جمعته من معلومات وقصاصات وكتابات حتى تيقنت أن الموضوع سيأخذ أكثر مما كنت أظن، فالوعد المذكور هو وعود بدأت منذ القرن الثامن عشر وعلى شكل جرعات صغيرة متتالية ومتوالية لم تتوقف، ومن أطراف عدة ضمن مخطط غربي عالمي يصل لمستوى الحملة الصليبية المدروسة، وهذا ليس مبالغة أو تبني لنظرية المؤامرة كما سيتضح لاحقا، لكنه مخطط بنفس طويل جدا للوصول إلى الوعد الذي نعرفه، وبإعداد محكم في ظل تغييب لإرادة الشعوب في المنطقة.
لن أسترسل أكثر من ذلك وسأبدأ بالقصة، ولكن بشكل معكوس غير ما ألفناه، ستكون القصة لفترة ما قبل الوعد المشؤوم، والمؤامرات التي سبقته من قبل الجميع بمن فيهم أبناء جلدتنا، لينتهي السرد بدلا من أن يبدأ بإعلان يوم 02/11/1917، مع الشكر لأخي الذي جعلني أكتشف ضحالة ما أعرفه وجهلي بحقبة تاريخية هامة، بل ربما الأهم في تاريخ شعبي.
البدايات المعروفة: صراع فرنسي- بريطاني
ترجع البدايات الأولى لفكرة إنشاء وطن خاص باليهود، يجمع شتاتهم ويكون حارسًا على مصالح دول (أوروبا) الاستعمارية في الشرق إلى ما قبل الحملة الفرنسية على مصر، وظهرت أولى العلامات في وعد "نابليون" بإنشاء دولة لليهود، وتصوروا أين؟ في فلسطين، حيث دعاهم "لإعادة بناء الهيكل بإعتبارهم ورثة إسرائيل الشرعيين!"، هذه الدعوة جاءت في شهر آذار/مارس من عام 1799 أي قبل أكثر من قرنين من الزمن وهو ما قصدته بالعنوان.
كان نابليون يحلم باقامة دولة تابعة له في فلسطين لتشكل شوكة في حلق غريمته انجلترا ولتصبح اداته في السيطرة على مصر وطرق المواصلات إلى الشرق، وبعد ان فشلت حملة نابليون إلى مصر عاد إلى اوروبا وحقق فيها انتصارات باهرة. وتألق تاج الامبراطورية على رأسه ولكنه ظل يحلم بمشروعه وخشي ان يستفيد الانجليز من فكرته ببناء دولة لليهود في فلسطين. ولكي يسد الطريق عليهم وانطلاقا من قانون المصلحة الاستعماري دعا في عام 1807 إلى اجتماع السانهدرن وهو المجلس الكهنوتي الاعلى لليهود في اوروبا. وجعل الكهنة يتخذون قرارا يعلنون فيه ان اليهود ينتمون إلى قوميات البلاد التي يعيشون فيها وان اليهودية هي دينهم فقط.
وقد وجدت هذه الدعوة صدى لها لدى كثير من اليهود، فقد كتب المفكر اليهودي (موسى هس) يقول: إن "فرنسا" لا تتمنى أكثر من أن ترى الطريق إلى "الهند" و"الصين" وقد سكنها شعب على أهبة الاستعداد لأن يتبعها حتى الموت.. فهل هناك أصلح من الشعب اليهودي لهذا الغرض؟!
لقد التقت المصالح الاستعمارية الاوروبية في انتزاع فلسطين من الوطن العربي مع المصالح الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود، بل إن قادة أوروبا هم الذين عرضوا على اليهود إقامة وطن لهم في فلسطين، قبل أن تطرح الحركة الصهيونية الفكرة بسنوات طويلة، وعلى الأخص من جانب فرنسا وبريطانيا في محاولة للتخلص من المشكلة اليهودية في أوروبا وتحقيق مكاسب استعمارية من الدولة اليهودية .
كان التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا واضحاً في الشرق الأوسط، حتى قبل قيام الحركة الصهيونية، وكان هدف كل منهما حماية مصالحه في المنطقة، وملاحقة الدولة الأخرى من إجل إيذائها أو منافستها على تلك المصالح، وإيجاد الوسائل المختلفة التي تحمي مصالحها واعتقدت بريطانيا بعد فشل نابليون بونابرت في مصر وبلاد الشام، أنه من المفيد إيجاد بدائل اخرى في الشرق الأوسط، لاستمرار تفوقها على فرنسا. وقد وجدت في فلسطين مكاناً ملائماً لبسط نفوذها بسبب الموقع الجغرافي الذي تتمتع فيه وسط الوطن العربي وباعتبارها البوابة التي تربط بين أسيا وأفريقيا، ولهذا فإن من مصلحة الاستعمار الاوروبي والبريطاني بالذات، فصل الجزء الاسيوي عن الجزء الأفريقي من الوطن العربي، وخلق ظروف لا تسمح بتحقيق الوحدة بين الجزءين في المستقبل .
بدأ الموقف البريطاني يتضح بعد حملة محمد علي باشا والي مصر الى الشام، عندما أرسل ابنه ابراهيم باشا الى المنطقة، مما أثار بريطانيا لأنها خشيت أن تتوحد مصر مع بلاد الشام في دولة واحدة، لهذا ساهمت بريطانيا مع الدولة العثمانية في إفشال حملة ابراهيم باشا على بلاد الشام .
وبعد تدخل بريطانيا، أرسل بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا مذكرة إلى سفيره في استانبول في عام 1840، شرح فيها الفوائد التي سوف يحصل عليها السلطان العثماني من تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين وقال :« إن عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين بدعوة من السلطان وتحت حمايته يشكل سداً في وجه مخططات شريرية يعدها محمد علي أو من يخلفه » .
وفي مارس / آذار 1840 وجه البارون اليهودي روتشيليد خطاباً إلى بالمرستون قال فيه : «إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه في مصر ليسا كافيين لأن هناك قوة جذب بين العرب، وهم يدركون أن عودة مجدهم القديم مرهون بإمكانيات اتصالهم واتحادهم، إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض، فسوف نجد أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبين العرب في آسيا. وكانت فلسطين دائماً بوابة على الشرق. والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر في هذه البوابة، لتكون هذه القوة بمثابة حاجز يمنع الخطر العربي ويحول دونه، وإن الهجرة اليهودية إلى فلسطين تستطيع أن تقوم بهذا الدور، وليست تلك خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد مصداقاً للعهد القديم، ولكنها أيضاً خدمة للامبراطورية البريطانية ومخططاتها، فليس مما يخدم الامبراطورية أن تتكرر تجربة محمد علي سواء بقيام دولة قوية في مصر أو بقيام الاتصال بين مصر والعرب الآخرين».
ذهبت احلام نابليون ادراج الرياح ،وإصطدمت طموحات بالمرستون بالواقع، ذلك لان اليهود انفسهم لم يكونوا معنيين ولا راغبين بما يطرح عليهم، فلقد كانت حركة الاندماج اليهودية (هسكلاة) في اوج نشاطها وكان مجرد دعوتهم لمغادرة اوطانهم ليذهبوا إلى بلاد اخرى لا تربطهم بها اية مصالح يضربهم كمواطنين في البلاد التي ينتمون اليها.
إلا أن الفكرة لم تمت، ولم يستسلم خلفاء بالمرستون خاصة بعد افتتاح قناة السويس فعادوا للتمسك بمخططهم الصهيوني الاستعماري والدعوة لتوطين اليهود في فلسطين. ولقد تمكن ديزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا من شراء حصة الخديوي من قناة السويس عام 1875 وكان ديزرائيلي ووزير خارجيته اللورد سالزبري يتبنيان مشروع بالمرستون فشجعا اللورد لورنس اوليقانت بالتفاوض مع الحكومة العثمانية حول ارض يمكن لليهود استيطانها، ولكن الاحداث تلاحقت ففي عام 1880 فاز حزب الاحرار في الانتخابات وتولى غلادستون محل ديزرائيلي، وبحث الصهاينة اليهود عن صهاينة بريطانيا امثال (بالمرستون وشافنسري وديزرائيلي وسالزبري)… فلم يجدوهم!